إجراءات طمس الحقائق: التحقيق المزعوم في أحداث “الجرف الصامد”

ملخص التقرير, ايلول 2016

قبل نحو السنتين وفي صيف العام 2014 وقعت “جولة قتال” أخرى بين إسرائيل والفلسطينيين في قطاع غزة، أطلقت عليها إسرائيل اسم “حملة الجرف الصّامد”. هذه المواجهة كانت الأشدّ فتكًا وتدميرًا منذ العام 1967 من ناحية حجم الإصابات التي لحقت بالفلسطينيين؛ إذ قتلت إسرائيل 2202 فلسطينيًا، المئات منهم قُتلوا وهم داخل منازلهم. من مُجمل القتلى هنالك 1391 – أي نسبة 63% – لم يشاركوا في القتال ويشمل ذلك 526 قاصرًا. وصل عدد المنازل التي هُدمت أو أصيبت بأضرار بليغة إلى 18000 وفقًا للتقديرات؛ وأكثر من 100 ألف فلسطينيّ أصبحوا بلا مأوى.

أثارت هذه الإصابات والخسائر الفادحة شبهات قويّة بأنّ إسرائيل قد انتهكت مبادئ القانون الإنساني الدولي. إنّ الجهة الرسمية الوحيدة في إسرائيل التي يُزعم بأنها حقّقت – ومازالت تحقّق – في هذه الشبهات هي النيابة العسكرية والتي كانت قد أعلنت أنّها باشرت التحقيق حتى قبل انتهاء الحرب.
ولكنْ وكما هو الحال بالنسبة إلى أحداث قتالية سابقة، هذه المرّة أيضًا لا يتمّ التحقيق مع المتّهمين الحقيقيين: أصحاب المناصب السياسية والرتب القياديّة العالية في الجيش الذين رسموا السياسات وكانوا مسؤولين عن صياغة الأوامر واتّخذوا قرارات عمليّاتية خلال الحرب، لم يخضعوا لأيّ تحقيق من قِبَل أيّة هيئة رسية، ولمْ يطلَب إليهم تقديم حسابٍ حول مسؤوليتهم عن النتائج الوخيمة الناجمة عن قراراتهم. لقد مضت سنتان ولم تُطرَح أسئلة حول السياسات المتّبعة – بما في ذلك سياسة استهداف البيوت المأهولة التي كانت نتيجتها أنْ قتل الجيش مئات الأشخاص، وسياسة إطلاق الصواريخ عشوائيًا على مناطق مأهولة، وسياسة هدم آلاف البيوت وتدمير مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية.

علاوة على ذلك فإنّ النائب العامّ العسكري – المسؤول عن إدارة التحقيقات داخل الجيش – واقع في تناقض مصالح بنيويّ في كلّ ما يتعلّق بالتحقيق في مثل هذه الشبهات. فمن جهة كان مسؤولاً عن تقديم المشورة القانونية للجيش قبل القتال وعمل بتعاون وطيد مع أصحاب الرتب العسكرية في الميدان طيلة فترة القتال وصادق على سياساتهم؛ ومن جهة ثانية يُوكَل إلى النائب العامّ العسكري الآن أن يقرّر أيَّ الحالات يُفتح التحقيق فيها وما هي الخطوات الواجب اتّخاذها لدى انتهاء التحقيق. وفي حال كانت هناك شبهة انتهاك للقانون ذات صلة بتعليمات كان قد صادق عليها هو نفسه سوف يضطرّ النائب العامّ العسكري إلى الإيعاز بالتحقيق في أعمال هو مسؤول عنها؛ ولو كان يجرى التحقيق أيضًا مع ذوي الرتب العليا لكان عليه أن يوعز بإجراء تحقيق مع نفسه أو مع العاملين تحته مباشرة.

لقد بلّغت النيابة العسكرية أنها قد بدأت – والقتال مازال دائرًا – في فحص شبهات انتهاك القانون. في نهاية آب 2016 أعلنت بيانها الخامس في هذا الشأن والذي أفاد بأنّه حتى ذلك الحين كانت قد وصلت شكاوى تتعلق بـ360 حادثة، وأنّه قد تمّ تحويل نحو 220 حادثة منها إلى جهاز الفحص التابع للقيادة العامّة – الذي أقيم في خضمّ القتال لفحص الوقائع الأوّلية المتعلقة بالشكاوى المقدّمة. من بين مُجمل الحالات التي أعيدت لمعالجة النائب العامّ – والتي لم تعلن النيابة عددها – أوعز هذا بإغلاق ملفّ نحو 80 حالة دون تحويله إلى التحقيق في الشرطة العسكرية وبتحويل 7 حالات إلى التحقيق. في بيان النيابة لم يُذكَر كم من التحقيقات قد انتهى وكلّ ما صرّح عنه البيان هو أنّ النائب العامّ العسكري قرّر في حالة واحدة فقط أنه يجب إغلاق الملفّ. في 24 حالة أخرى معظمها حالات عنف ونهْب أوعز النائب العامّ العسكري إلى الشرطة العسكرية بفتح تحقيق فوريّ، دون تحويلها إلى الجهاز الذي أقيم لفحص الشبهات. من هذه الحالات انتهى التحقيق في 13 حالة وأوعز النائب العامّ العسكري بإغلاق الملف دون فعل شيء. حتى الآن انتهى التحقيق في حالة واحدة فقط إلى تقديم لائحة اتّهام ضدّ جنديّين بدعوى النهْب وضدّ جنديّ آخر بدعوى مساعدتهما على ذلك.

لقد جرى تقييد التحقيق في أحداث “الجرف الصامد” سلفًا ليشمل حالات قليلة ليس إلاّ ومسؤوليات الرّتب الميدانيّة لا غير. وبوصفها كذلك فإن فائدة هذه التحقيقات محدودة منذ البداية. ومع ذلك فإنّ التمعّن في بيانات النيابة وفي تبريرات النائب العامّ العسكري المفصّلة في تلك البيانات يُظهر أنه حتى هذه التحقيقات التي تديرها النيابة العسكرية لا تسعى إلى فحص الحقائق ومحاسبة المسؤولين.

إنّ المعلومات التي نشرتها النيابة العسكرية حول عمل جهاز الفحص تُبطن أكثر ممّا تُظهر: وهكذا ليس معلومًا عدد الطواقم التي تمّ إنشاؤها ومن هم أعضاء هذه الطواقم وما هي وظائفهم في الجيش؛ ما هو جدول أعمال الطاقم؛ ما هو عدد الملاكات التي تمّ تخصيصها لهذا الجهاز وأي الصلاحيات مُنحت للعاملين فيه. كذلك ليس واضحًا ما هي المعايير التي يتّبعها النائب العامّ العسكري ليقرّر أي الحالات يحوّلها إلى جهاز الفحص وفي أي الحالات يوعز بفتح تحقيق جنائي فوري وأي الحالات يقع تحت تصنيف “أحداث شاذّة”.

فوق ذلك وأساسًا: تبريرات النائب العامّ العسكري لإغلاق الملفات تشير إلى تأويل غير مقبول لأحكام القانون. في 22 حالة قرّر النائب العامّ العسكري أن الجنود قد تصرّفوا وفقًا للقانون مستندًا في ذلك إلى فحص كلّ حادثة كأنما هي حادثة منفردة وشاذّة وبغضّ النظر عن أيّ سياق كان. حقًا إن القانون الدولي يفحص هو أيضًا قانونية كلّ هجوم على انفراد ولكن النائب العامّ العسكري يتمادى في تأويل ذلك حدَّ التطرّف وفي تجاهُل مطلق للسياق العامّ، والذي هو حيويّ لأجل اتخاذ قرار بشأن قانونية كلّ هجوم.

الأحداث التي بحثها النائب العامّ العسكري هي جزء صغير من عشرات الهجمات المتطابقة تقريبًا التي نُفّذت خلال أيّام القتال الخمسين والتي انتهت مرّة تلو الأخرى إلى نتائج مرعبة. من هنا لا يمكن قبول الادّعاء القائل إنّ المسؤولين عن تلك الهجمات كان يحقّ لهم أن يعتمدوا في تقييم الإصابات والخسائر المتوقعة في أوساط المدنيّين فرضيّات قد ثبت بطلانها مرّة تلو الأخرى – وبأثمان باهظة في الأرواح – سواء من خلال أفعالهم هم أو أفعال زملائهم.

التأويل الذي اتّبعه النائب العامّ العسكري له مغزىً بعيد المدى وذو إسقاطات على مجمل الهجمات التي نُفذت خلال القتال: إنّه تأويل يخلي جميع الأطراف التي كانت ضالعة في الهجمات – بدءًا من رئيس الحكومة مرورًا بالنائب العامّ العسكري نفسه وانتهاءً بالشخص الذي أطلق النيران – يخليهم من واجب عمل كلّ ما في استطاعتهم لأجل تقليص الإصابات أو الخسائر في أوساط المدنيين. وعمليًا يضع النائب العامّ العسكري المسؤولين عن الهجمات – ومن ضمنهم أصحاب المناصب القيادية العليا بما في ذلك هو نفسه (وهو منصب قد تخلّص فعليًا من التحقيق) – تحت سقف متطلّبات منخفض جدًا؛ وذلك حين يكتفي النائب بالسؤال: ماذا ادّعى متّخذو القرار أنهم كانوا يعرفونه قبل الهجوم ويتجاهل تمامًا السؤال: هل أساسًا كان تقييمهم مقبولاً ومعقولاً. في ذلك يتجاهل النائب العامّ العسكري تمامًا السؤال: ماذا كان على أصحاب المناصب أولئك أن يعلموا وضمن ذلك ماذا كان عليهم أن يعلموا ويتعلّموا من خلال تجربتهم نفسها.

رجال السياسة ورجال القضاء وقياديّون في الجيش وأصحاب المناصب العليا في النيابة العسكرية قد بيّنوا أثناء القتال، وعلى نحوٍ أشدّ بعد انتهاء القتال، أنه لا حاجة بتاتًا لفحص كيف يُدار الجيش. هؤلاء يدّعون أنّ الجيش طيلة حملة “الجرف الصامد” تصرّف وفقًا لأحكام القانون الإنساني الدولي وعمل كلّ ما في وسعه لمنع الخسائر والإصابات في أوساط المدنيّين. من أقوال هذه الجهات الرسمية يبدو أنّ أحد أسباب دعمهم لإجراء تحقيق – ولو ظاهريّ – في شبهات انتهاك القانون أثناء حملة “الجرف الصامد” هو رغبتهم في منع انتقال معالجة الموضوع نفسه إلى المحكمة الجنائية الدولية (ICC) في لاهاي.

بمقتضى دستور محكمة لاهاي لا تتدخّل المحكمة ما دام قد ثبت أنّ إسرائيل “تريد وتستطيع” أن تحقق بنفسها في انتهاكات القانون الإنساني الدولي. يبدو أنّ إسرائيل لم تنجح حتى في هذه المهمّة. المدّعية العامّة في المحكمة الدولية في لاهاي لم تقرّر بعد هل للمحكمة صلاحية التحقيق في ما جرى أثناء القتال في حملة “الجرف الصامد”؛ ولكن إذا قرّرت أنّ الأمر يقع ضمن صلاحيات المحكمة، فهنالك شكّ كبير بأن تمنع التحقيقات التي تديرها إسرائيل تدخّل المحكمة.

في نهاية أيّار 2016 نشرت منظمة بتسيلم تقريرًا بعنوان “ورقة التوت التي تغطّي عورة الاحتلال: جهاز تطبيق القانون العسكري كمنظومة لطمس الحقائق”. في التقرير أوضحت المنظمة قرارها بشأن وقف توجيه الشكاوى إلى ذلك الجهاز بسبب إخفاقه الثابت والمتواصل في جلب المسؤولين للمساءلة والمحاسبة جرّاء إلحاق الجنود الأذى بالفلسطينيين. استعرض التقرير عمل بتسيلم أمام النيابة العسكرية وقسم التحقيقات في الشرطة العسكرية طيلة أكثر من 25 عامًا وبيّن كيف يُنشئ الجهاز مظهر تطبيق القانون بينما في الواقع الفعليّ يقاس نجاحه أساسًا في مدى قدرته على طمس ما يحصل.

جهاز الطمس يعمل ليس فقط في سياق عمليات السيطرة وضبط الفلسطينيين من قبَل الجيش في الضفة (وقد استعرضناها في التقرير المعنون”ورقة التوت..”) وإنّما أيضًا لدى التحقيق في جولات القصف والقتال في قطاع غزّة. فهنا أيضًا يصبح العمل الأساسيّ لهيئات التحقيق خلق صورة زائفة لجهاز يقوم بكامل وظائفه ويسعى إلى كشف الحقيقة بينما المسؤولون الحقيقيون عن الانتهاكات لا يخضعون لأيّ تحقيق معهم، وكلّ ما يجري هو فحص سطحي لحوادث منفردة مقطوعة الصلة مع أيّ سياق.

عندما انتهى القتال في حملة “الجرف الصامد” كنّا قد أعلنّا أنّنا لن نوجّه بعد الشكاوى إلى الجهاز العسكري لتطبيق القانون رغم طلبهم الصريح. ومع ذلك فقد نوّهنا أنّه يسرّنا التراجع عن قرارنا ذلك فيما لو ثبت أنه يتم حقًا إجراء تحقيقات جدّية ومستقلّة ضدّ المسؤولين عن انتهاكات أحكام القانون الإنساني الدولي أثناء القتال. ولكن مرّت سنتان والأمور بقيت على حالها – مازالت جهود هيئات التحقيق مكرّسة لخلق مظهر زائف لا غير.

لقد كان القتال أثناء حملة “الجرف الصامد” قاسيًا وعنيفًا. أثنائها طبّقت إسرائيل سياسة قصف المنازل من الجوّ وهذا أدّى إلى موت مئات الأشخاص – ومن ضمنهم عائلات بأكملها. عشرات الآلاف أصبحوا بلا مأوىً وفقدوا كلّ ما لديهم. التحقيقات الحقيقية والناجعة مطلوبة ليس فقط لتحقيق العدل للضحايا وأقربائهم؛ إنها مطلوبة أيضًا لأجل الرّدع ومنع تكرار مثل هذه الأفعال وكذلك منع إصابات وخسائر إضافية. عندما لا يجري التحقيق في شيء وعندما يوجد إجماع أنّ كلّ ما يجري أثناء القتال هو قانونيّ وأخلاقيّ – فالطريق ممهّدة لحصول كلّ هذه الأشياء مرّة أخرى بل وحصول ما هو أسوأ منها. بعد حملة “الرصاص المصبوب” ليس هناك مساءلة ولا محاسبة وكلّ ما هنالك هو الطمس فقط لا غير. إنها ليست مجرّد مسألة قانونية: نحن نتحدّث هنا عن حياة الناس (وموتهم).

شاهد أيضاً

صحفي إسرائيلي يحرض على المصلين الفلسطينيين في المسجد الأقصى

مقال كتبه الصحفي نوعم أمير في صحيفة “مكور ريشون” بعنوان: “كذب حرية الديانة: قولوا للجميع …